#بئر_الغربة
- يا نار الغربة كوني بردا وسلاما على خليل
يقولون في علم النفس ان التغيير يؤدي الى التوتر ، change produces tension واذا ارتفع مستوى التوتر قد يتحول ويتجلى على شكل مَرَضي وسيطرة مشاعر القلق والضغط tension produces stress .
وها انا في عين العاصفة تتقاذفني امواج التغيير الإجباري ، اخرج من منطقتي الآمنة المريحة والتي اعتدتها خلال الاشهر التي امضيتها في بلدة رفرسايد، تاركا خلفي هدوء المكان، ورتابة الحياة، وانس الأصدقاء، وبساطة العيش، وراحة البال ورخص الاسعار، وأشهى الطعام ، وجمال المشهد، وتقذف بي امواج التغيير العاصفة الى فضاء جديد غير محدد المعالم والاتجاهات ، والى مصير مفتوح ينتظر استعادة الرتابة واستبدال منطقة آمنة بأخرى.
والتغيير يشعل في الصدر نارا، اذا كان في بلاد الغربة، ويصبح كبئر عميقة مظلمة اذا كان على غير هدى ولم يُعرف مسبقا ميناء الوصول ولا متى الوصول .
وها هو التغيير يقذف بي ويوصلني الى مدينة جديدة ونمط آخر من الحياة اشد صخبا ومفتوحا على كل الاحتمالات ، لأبحث فيها عن منطقتي آلامنة منطلقا من نقطة الصفر من جديد .
وهكذا اصبحت في مدينة سان دياغو حقا وفعلا، وهذا يعني انتهاء مرحلة الهدوء، والأجواء الريفية، والسكن الداخلي، والبوفيهات المفتوحة، والمصروف المحدود، وبدء مرحلة المدنية، والضجيج، والصخب، والبحث عن سكن، والأسعار المرتفعة، والمصروف المرتفع، وقرف التفاصيل اللازمة للعيش كطالب في بلاد الغربة و بعيدا عن الاسرة.
وتعني نهاية فترة اللعب ودراسة اللغة المسلية ، وبدء مرحلة الجد والاجتهاد ودراسة الماجستير والغرق في متاهات البحث والدراسات وعمل الابحاث وتقديم الامتحانات وانتظار النتائج .
مدينة شاسعة واسعة يسكنها الملايين وتمتد حدودها الإدارية الى مديات مذهلة. مدينة جميلة بشواطئها الرملية الممتدة عدة كيلومترات وتصل الى حدود المكسيك من الجنوب وفيها اكبر متنزه يسمونه (منتزه بالبوا) ، وقريب منه تقع اعظم حديقة حيوانات في العالم، وعلى مسافة قريبة عالم البحار بحيتانه اللعوبه.
مدينة فيها عدة جامعات حكومية وأهلية وخاصة ومراكز وأسواق تجارية، وتعتبر جامعة سان دياغو الحكومية التي تدار من قبل الولاية واحدة من اجمل معالم المدينة، وتقع على رأس تله، ويقصدها الطلاب من كل انحاء الولايات المتحدة والعالم ، ويصل عدد طلبها في مختلف الكليات الى ٥٠ الف طالب، نصفهم من النساء الجميلات ونصف النصف نساء فاتنات حالمات بالوصول الى هوليود عبر كليات الاعلام والفنون التي اكتسبت مع الايام سمعة انها البوابة الخلفية للوصول الى هوليود.
في اليوم التالي من وصولي الى المدينة غادرت سكن المضيف الكردي سيف الدين مبكرا ولا اعرف الان كيف تدبرت امري من اجل الوصول للجامعة، وفور وصولي الى هناك راجعت مكتب شؤون الطلبة وقدمت طلب التحاق حسب الاصول المتبعة، واتجهت بعد انجاز تقديم الطلب الى كلية الادب الانجليزي وسألت عن عميد الكلية فوجدته انسان متواضع مبتسم اسمه الدكتور جورج وهو امريكي من الجنس الابيض واصله كما عرفت لاحقا من مدينة نيويورك شديدة الصخب وانتقل للتدريس في جامعة سان دياغو هربا من الصخب وسرعة الحياة وغلاظة الناس في نيويورك وبحثا عن حياة اكثر هدوءا واقل مخاطرة وصخبا.
استضافني الدكتور في مكتبه، وتعارفنا، ثم أبديت له رغبتي في الدراسة في الكلية وأخبرته انني صاحب نظرية تربط بين اليتم والابدع الادبي وانني انوي عمل رسالة ماجستير حولها وتحت هذا العنوان .
رحب الدكتور جورج بالفكرة لكنه ابدى وجهة نظره حول الموضوع واخبرني انه لا يمكن تعميم النظرية على جميع المبدعين في المجال الادبي وانه على الرغم من وجود كُتاب ايتام الا ان بعض الكتاب مثل همنحوي ليسوا ايتام ، واتفقت معه على صحة ملاحظته لكنني اصريت على اهمية اليتم في خلق الابداع من واقع تجربتي الذاتية وتشابه قصة يتمي مع يتم توليستوي ، وطال الحوار وكنت أدافع عن وجهة نظري بحماس وفي نهاية النقاش اتفقنا على توسيع الطرح بناء على توجيهات من الدكتور جورج ، فبدلا من افتراض ان اليتم parental loss هو سبب الابداع اقترح الدكتور جورج توسيع الفكرة والقول بوجود فقد عام في حياة الأديب المبدع object loss .
وغادرت مكتب عميد كلية الادب الانجليزي بعد ان تركت لديه انطباعا جيدا جدا بأنني ساكون طالبا مثابراً ، وكان الدكتور قد ابدى انبهاره بحماستي ودفاعي عن نظريتي والتي كانت مجرد فكرة عامة في ذلك الوقت .
واذكر انني سمعته يومها يبدي انبهاره بقوله يعني انت جاي من فلسطين وتحمل فكرة لم يفكر فيها كل الطلبة الامريكان!؟ وشعرت ان الدكتور يميل الى قبولي في برنامج الماجستير لكن كان علي الانتظار فمن يدري عند تطبيق المعايير ؟!
وغادرت مبنى الكلية وانا اشعر بالارتياح بعد مقابلة الدكتور عميد كلية الادب الانجليزي، خاصة انه اتاح لي المجال لطرح فكرتي وتقبلها بصدر رحب، بل واستحسنها واثنى عليها، وعلى عكس ما كانت تقابل به عند الاغلبية .
ومع انتهاء عملي في الجامعة ذلك اليوم اتجهت للخروج منها عبر البوابة الرئيسية والعودة الى سكن مضيفي سيف الدين الكردي، لكني كنت اسير متثاقلا، مثقلا بهموم السكن وإيجاد عمل يوفر لي دخلا مناسبا وهم القبول، وصخب المدينة، والاحتمالات المفتوحة، علاوة على توتري الناتج عن تركي لمنطقتي الآمنة ووجودي في مكان جديد.
كنت اسير وكأني في نفق مظلم ، بئر عميقه معتمة. كانت مشاعر الغربة تكوني كنار حامية وعلى اشدها، واشد ما كنت اخشاه رغم وجود مبشرات هو عدم قبولي في الكلية، وما كنت لاحتمل التفكير في ذلك الاحتمال وتبعاته .
واثناء تلك الميمعة ومشاعر الوحدة والغربة الطاغية وقع بصري على وجه شخص مالوف مبتسم يسير في الاتجاه المعاكس لم اكن أتوقع وجوده في ذلك المكان ابدا، ولم اصدق عيوني بداية ولكني ما لبثت ان صحت يا الهي انت نبيل...نبيل ...نبيل ؟!؟!
كان ذلك الوجه المبتسم هو وجه نبيل كوكاليه ابن بيت ساحور وزميلي في جامعة بيت لحم ومن نفس دفعة التخريج ، و كان صديقي بل اكثر من ذلك لان علاقتي به وباخية منير كوكاليه واهله كانت قد توثقت وتعمقت بعد ان سكنت في غرفة صغيرة ملحقة ببيتهم عندما كنت في السنة الاولى في جامعة بيت لحم ، وقد عشت معهم ذلك العام وكأني واحد من الاسرة، وكانت والدتهم طيبة القلب تعاملني كأنني واحد من ابنائها ولطالما اطعمتني وسقتني ودللتني .
فجاة وفي لمح البصر صارت نار غربتي بردا وسلاما وكانها لم تكن ، وسيطر علي احساس من يرى نورا اخر النفق، او يمتد له حبل نجاةً في بئر الغربة المعتم .
سألني نبيل عن احوالي فشرحت له وضعي، واقترح علي فورا ان ينقلني عند شباب فلسطينية يسكنون في مكان قريب من الجامعة الى حين العثور على سكن. وفعلا ساعدني باحضار أمتعتي من عند مضيفي الكريم سيف الدين الكردي ، وذهب معي عند الشباب وعرفني عليهم وبقيت مع تلك المجمو عة من الشباب وكانوا بقيادة شاب فتوة اسمه عامر الصفافي مدة قصيرة من الزمن حتى عثرت على سكن مستقل وقريب من الجامعه ايضا، لكنني أبقيت على علاقة طبية مع هؤلاء الشباب والذين كان حالهم لا يسر لا من قريب ولا من بعيد .
مع لقائي الصديق نبيل كوكاليه الذي تبين انه سبقني لنيل درجة الدكتورة والتي حصل عليها فعلا لاحقا ، وعاد ليعمل مدرسا في جامعات فلسطين وما يزال، حُلت مشاكلي اللوجستية جملة وتفصيلا ، وبقي علي الحصول على القبول في الجامعة والعثور على عمل وتأمين دخل يكفيني لتغطية مصاريف دراستي ، وما حصل في هذا الخصوص كان مذهلا ، ومعجزا ، ولا يكاد يصدق .
انتظروني في السرد القادم ، وسادعكم تحكمون بانفسكم على ذلك